لم تندمل جراح السوريين التي تسبب بها الطاغية حافظ الأسد في مجزرة حماة في 2 شباط 1982، ليستمر الابن بقتل ماتبقى من الشعب.

وكانت قد وقعت مجزرة حماة في الثاني من شباط 1982 عندما حاصر الجيش السوري وسرايا الدفاع، بأوامر من الطاغية حافظ الأسد، مدينة حماة لمدة 27 يومًا بحجة قمع انتفاضة الإخوان المسلمين.

ونفذ المجزرة الجيش الأسدي بقيادة المجرم رفعت الأسد، شقيق حافظ، لإنهاء الثورة التي بدأت عام 1976 من قبل الجماعات الإسلامية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، ضد نظام البعث السوري.

وشهدت المجزرة الأليمة استنكار من قبل شعوب وحكومات العالم، تخلل ذلك صمت فاضح لدول الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ولتخدير الشعب السوري خصوصًا وشعوب العالم الإسلامي عموماً قام الطاغية حافظ الأسد بحيلته الكاذبة من خلال نفي رفعت الأسد إلى فرنسا مرسلاً معه مبالغ هائلة من ميزانية الحكومة السورية، وكأنه يكافئه على مجزرته، لكن هذا المنفى لم يكن أبدياً؛ لأن رفعت عاد إلى سوريا في عهد  السفاح الابن بشار الأسد بشكل علني دون الخوف من عقاب أي جهة دولية.

وعلى الرغم من هول هذه الكارثة الإنسانية، فإن النظام الأسدي تمكن من الإفلات من العقاب، ما شجعه لارتكاب المزيد من الجرائم والانتهاكات في حق أبناء شعبه، والتي زادت وتيرتها وحدّتها بشكل فظيع بعد ذلك، تزامناً مع اندلاع الثورة السورية عام 2011.

 وقد أغلقت مدينة حماة آنذاك بالكامل بوجه المدنيين، وطُوقت بالدبابات والمدرعات ومدفعيات الميدان، وحوصرت بآلافٍ من جنود الأسد الأب الذين لا يختلفون عن جنود الابن في الوحشية والإجرام.

وبدأ الجنود المخلصون لقائدهم السفاح، والذي لطالما أعدهم لمثل هذا الوقت، بقصف مدفعي عنيف على منازل الشعب السوري الأعزل في مدينة حماة متذرعين بأنهم من الإخوان، بالإضافة لاغتصاب مئات النساء وقتل الأطفال والشيوخ بالسكاكين وحربات البنادق.

وشهدت تلك الأيام حصاراً خانقاً وتعتيماً إعلامية مطبقاً حتى لاتنقل وسائل الإعلام عظم ووحشية هذه المجزرة.

ليلة المجزرة

وقد اختار حافظ الأسد شقيقه رفعت ليكون السلاح الأنسب في تنفيذ معركته الانتقامية، وكان الأخير آمراً لأكثر من 15 ألف عسكري، يتبعون لأهم تشكيلات الجيش آنذاك، والمتمثلة في: سرايا الدفاع، وسرايا الصراع، ولواء دبابات، والقوات الخاصة، بالإضافة إلى مختلف عناصر الأجهزة الأمنية والمخابرات والشعب الحزبية.

وتم تطويق المدينة وإغلاق مخارجها وعزلها بالكامل عن المحيط، وحين هبط الظلام على المدينة، في الثاني من شباط، كانت تشكيلات سرايا الدفاع أولى الفرق المنتشرة داخلها بالتزامن مع قطع الكهرباء وخطوط الهاتف، وابتداءً من الساعة التاسعة وقعت أحياء المدينة تحت رحمة الرصاص وقذائف المدفعية والراجمات، وكانت الليلة السوداء الأولى للمذبحة.

فجر المجزرة

مع فجر اليوم التالي 3 من شباط كان حيّ (الحاضر) العريق في حماة الهدف الأول للراجمات التي نصبها النظام فوق أبنية ساحة العاصي مقابل الحي بذريعة تحصن مقاتلي الطليعة بداخله، ومع انتهاء نهار ذلك اليوم كان الحاضر بأكمله عبارة عن ردمٍ من الحجارة تعلوه سحابة سوداء.

ومن جهة أخرى، فقد انتشرت باقي تشكيلات الجيش لتحتل شوارع وحارات المدينة وتشّلها بالكامل، ثم بدأت المرحلة التالية المتمثلة بـ "تعفيش" المحال التجارية بمختلف محتوياتها، واستمرت مرحلة النهب والتعفيش إلى اليوم التالي أيضاً 4 شباط حيث لم تسلم حتى دوائر الدولة والمصارف الحكومية من سرقة الأموال.

 ومن جهة أخرى فقد نشرت مجلة الـ "إيكونومست" مقالاً في عددها الصادر بشهر أيار 1982، حمل عنوان "أهوال حماة"، قالت فيه: "إن القصة الحقيقية لما جرى في شباط بمدينة حماة لم تعرف بعد، وربما لن تعرف أبداً، فقد مرّ شهران قبل أن تسمح (الحكومة السورية) للصحفيين بزيارة خرائب المدينة التي استمرت تحت قصف الدبابات والمدفعية والطيران ثلاثة أسابيع كاملة؛ لتمحى أحياء كاملة من المدينة القديمة".

ويذكر أنه في صباح 5 شباط وكان يوم جمعة، راحت أعداد الجنود تتضاعف داخل المدينة، ولاحظ الأهالي ارتداء كثيرين منهم دروعاً واقية وأقنعة بيضاء اللون، بالإضافة إلى ظهور عربات مصفحة صغيرة تسير مسرعة بين الأحياء.

وتجدد قصف المدافع والراجمات مستهدفة مختلف أحياء المدينة، إلا أن التركيز كان على منطقة السوق حيث تهدمت معظم البيوت، فلجأ من بقي حياً من أصحابها إلى الأقبية.

وعند منتصف النهار، أعلن البدء بالذبح الجماعي، وكانت البداية مع العائلات المحتمية داخل الأقبية وبالكامل، ولتستمر بعدها المجازر دون توقف، وبصورة متزامنة داخل الأحياء، لدرجة أن الناس لم تعد تستطيع التفريق بين مجزرة حيّ وآخر.

ومن بين عشرات المجازر التي تعرضت لها المدينة خلال أيام الحملة، سنمرّ على الأكثر وحشية والأعمق أثراً:

مجزرة حي البياض: قتلت قوات النظام نحو 50 شخصاً لعدم تمكنها من حشرهم داخل ناقلات الاعتقال الممتلئة، ورمت بجثثهم داخل حوض لمخلفات معمل بلاط.

مجزرة حي الدباغة: قتل فيها 25 شخصاً (6 عائلات كاملة) جمعت داخل منشرة أخشاب ثم تم إحراق المنشرة وهم بداخلها.

مجزرة حي الباشورة: قتلت فيها قوات النظام عائلات بأكملها أيضاً: 39 سيدة وطفل بينهم و3 رجال من عائلة المشنوق، و11 شخصًا من عائلة الدباغ، و21 شخصاً من عائلة الموسى، و4 أشخاص من عائلة الكيلاني، وعائلة طنيش والتركماني وصبحي العظم، بالإضافة إلى نحو 40 شخصاً من عائلات متفرقة قتلوا في مسجد الخانكان والثانوية الشرعية.

مجزرة حي الشمالية: لم تعرف الأعداد بشكل دقيق حتى اللحظة، إلا أن الأهالي يقدرونهم بأكثر من 200 شخص تمّ إعدامهم داخل الأقبية، ومن بينهم عائلات كاملة: آل الزكار وآل كامل وآل عصفور.

مجزرة مقبرة سريحين: هي من أبشع المجازر الجماعية بحماة، حيث ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الرجال والنساء والأطفال لم يتم حصر أعدادهم أو معرفة أسمائهم جميعاً، فبعد أن أحضرت قوات النظام مئات الأشخاص على دفعات من مختلف أحياء المدينة، أطلقت عليهم النار وألقت بجثثهم في خندق كبير.

مجزرة المكفوفين (أو ما يطلق عليها مجزرة العميان): اقتحم عناصر سرايا الدفاع مدرسة للمكفوفين في منطقة المحطة التي يشرف على التدريس فيها شيوخ مكفوفون كبار في السن، وأقدم العناصر على حرقهم بعد أن أجبروهم على الرقص ثم أطلقوا عليهم النار مع قسم من طلابهم.

مجزرة عائلة المفتي: أحرق العناصر مفتي حماة، الشيخ بشير المراد، حياً، بعد أن سحبوه خارج المنزل على الأرض، وقتل معه 9 من أفراد العائلة.

مجزرة الأطفال: داخل الجامع الجديد عند سوق الطويل، وقعت المجزرة بعد مضي نحو أسبوعين على الحملة، وأثناء ذلك كان الناس قد بدأوا بالخروج بصورة محدودة في بعض المناطق، فوقفت سيارات بيع الخبز عند طرف الشارع، وطلب العناصر من الأهالي التوجه لجلب الخبز، وكالعادة أرسل الأهالي أطفالهم أكثر من 20 طفلاً لإحضار الخبز، ولدى عودتهم أوقفهم العناصر وطلبوا منهم الدخول إلى الجامع، ثم أطلقوا عليهم النار.

مجزرة الفتيات: كان العناصر يدهمون الملاجئ والأقبية بصورة متكررة، ويسحبون فتيات صغيرات، ثم يخرجون بهم لتنقطع أخبارهم بعد ذلك، وبعد انتهاء الحملة عثر الأهالي في حمّام الأسعدية على عشرات الجثث لفتيات معتدى عليهن.

هذا بالإضافة إلى مجازر عديدة أخرى، كمجزرة المشفى الوطني والجثث المقطعة بالسواطير داخله، ومجزرة معمل البورسلان الذي احتجزوا فيه آلاف المدنيين وتمّ قتل العديد منهم.

ويذكر أن اللجنة السورية لحقوق الإنسان قدرت أعداد القتلى بين 30 و40 ألفاً، غالبيتهم العظمى من المدنيين، وقضى معظمهم رمياً بالرصاص بشكل جماعي، ثم تمّ دفن الضحايا في مقابر جماعية.

وتشير تقارير إلى اختفاء نحو 10- 15 ألف مدني منذ وقوع الأحداث، ولا يُعرف إن كانوا أحياء في السجون العسكرية أم لقوا حتفهم.

كما اضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة بعد أن تمّ تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً، وتعرضت أحياء عدة، وخاصة في قلب المدينة الأثرية إلى تدمير واسع، إلى جانب إزالة 88 مسجداً وثلاث كنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي.

وتكاد لا تخلو أسرة في مدينة حماة إلا وفقدت أباً أو ابناً أو ابنة أو أخًا أو أماً أو زوجة، ويضاف إلى ذلك نقمة النظام وغضبه المستدام على أبناء المدينة منذ تلك الأيام، وتذكيره المستمر لهم بأحداثها بالرغم من عدم نسيانهم لها، كما لعبت تلك الأحداث ووحشيتها دوراً رئيساً في منع أبناء حماة من الاستمرار واللحاق بركب المدن الثائرة بعد مرور أشهر معدودة على ثورة آذار 2011.

ولمعرفة حجم وهول مجزرة حماة، يكفي المرء حين يستمع لأهالي المدينة وهم يتحدثون عن سيرة ما، كولادة شخص مثلاً، أو وفاة آخر، أو زواج فتاة، ثم يذكرون تاريخ الحدث بالقول إنه وقع قبل الأحداث أو بعدها، بزمن معين. (İLKHA)